التقابل الصوتي في شعر الإمام أبي حامد الغزالي
طاهر لون معاذ
قسم اللغة العربية: جامعة بايرو كنو
بنية
التقابل
يتحدد التقابل
بصورته الأساسية من خلال رصد دالات لغوية متقابلة من وجهة البناء، ومعتمدة على
علاقات منطقية تقع في إطاري التضاد أو المخالفة، وهذه العلاقات، تنعكس بفاعليتها
على البنية الأسلوبية للتقابل.[1] ويتضح
من ذلك أن التقابل في الدراسة الأسلوبية يشمل الطباق والمقابلة في البلاغة العربية
القديمة، فالباحث في هذا الإطار سيحاول
رصد البنية التقابلية في بنية القصيدة عند الغزالي وما يتركه من أثر صوتي وما
يتبعه من انسجام دلالي، سواء جاءت على صورة الطباق أو صورة المقابلة.
الطباق والمقابلة:
الطباق من المحسنات في علم البديع، وإن
كان القدامى قد عدوه من ضمن المحسنات المعنوية لكنه في الوقت ذاته يعد من المحسنات
اللفظية التي تترك أثرا إيقاعيا على النص، ولذا عرف بعض العلماء المحسنات المعنوية
بأنها التي يكون التحسين فيها راجعا إلى المعنى أولا وبالذات وإن كان بعضها يفيد
تحسين اللفظ.
والطباق ظاهرة تضادية تقتضى الجمع بين
الشئ وضده في الكلام[2]
وإن كان في الشعر أبدع، إذ فيه تتلاحم الأضداد ويسيطر المنطق اللامنطقي ويشيد
تناقض جديد مقابل للتناقض الراسخ بداهة في الوجود[3].
وبنية التقابل هي أهم ميزة أسلوبية
لشعر الإمام الغزالي، حيث تتجلى بنية التقابل بوضوح أكثر من أية ظاهرة في ديوان
الغزالي، ومن المعروف أن التضاد جار في كلام الصوفية، كما أنهم جعلوا لأنفسهم
مفاوز يجتازونها للوصول إلى الله تعالى، بالإضافة إلى الأحوال النفسية الانفعالية
التي يتعرضون لها دوما، كل هذا وذاك مبني على التضاد، فالصوفي دائما بين السكر
والصحو أو بين الخوف والرجاء أو بين القبض والبسط أو بين الغفلة واليقظة (الذكر)
أو بين الأنس واليأس بل حتى بين الظاهر والباطن. فالغزالي كصوفي مولع بجمع الأضداد على هذا النسق
الصوفي، وقد لاحظ الغزالي بنفسه كثرة هذه الظاهرة التضادية في شعره وفي كلامه عموما،
فأقر بأن شخصيته مزيجة من تجمع الأضداد:
تشابه إعلاني وسري ومشهدي ** وغيبي وستري في هواك وشهرتي
تجمعت الأضداد فيّ ولم يكن
** بمستغرب لي في الهوى كل بدعة[4]
ولهذا لا تقلب صفحة أو صفحتين من
الديوان إلا وقد حصلت على كمّ من الظاهرة التضادية سواء طباقا كانت أو مقابلة، وقد
تتبع الباحث تلك البنية في شعر الغزالي فحصل على مائة وتسع وعشرين بنية تضادية، وربما
تجد في البيت الواحد الجمع بين ثمانية عناصر –أربعة تقابل أربعة آخرى، وخير مثال
على هذا قوله السالف الذكر:
فقربي به بعد
وربحي خسارة * وعزي به ذل ونغعي مضرتي[5]
وتجدر الإشارة إلى أن الظاهرة التضادية
عند المتصوفة تختلف كل الاختلاف عن التضاد العادي في كلام العامة والأدباء من غير
المتصوفة. فعلى هذا يمكن تقسيم التضاد إلى تضاد عادي وتضاد صوفي خاص اقتضته ثقافة
صوفية وتجربة روحية. وهذا ما يضاعف كمية التضاد في شعر الصوفي أكثر من غيره، حيث
يوجد فيه تضاد لغوي عادي بجانب التضاد الصوفي. فمن أمثلة التضاد اللغوي التقابل
بين اليوم والأمس أو الخروج والدخول أو بين القول والفعل أو بين الإغلاق والفتح أو
الصحة والسقم أو بين النثر والنظم أو الخير والشر مما تقتضيه طبيعة اللغة. ومن هذا
قوله:
أيخرج منها
آدما إثم زلة ** ويدخل هذا فعله كل زلة.[6]
وقوله:
وجاء حديث لا يملّ
سماعه ** شهي إلينا نثره ونظامه[7]
وقوله:
إن جبنت
بالقتال شجعها ** أو ضعفت في اللقاء قواها
أحبها وهي لـي
معادية ** كأنني لست من أحباها[8]
فالنفس
عند الفتى القائم بحقوقها يشجعها عند لقاء العدو، لكن الغزالي يوبخ نفسه بأنه
يحبها وهي تعاديه بعدم انقيادها له. إن البنية التضادية هنا نابعة من استعمال لغوي،
بين (الخروج القابل للدخول) و (نثره المقابل لنظامه) و (الجبن والضعف المقابلان
للشجاعة والقوة) و(الحب المقابل للعداوة).
وأما التقابل الذي يظهر من أثر التربية
الصوفية فهي الحائزة على حيوية كبيرة، فبمجرد التأمل في هذه البنيات تشم رائحة
فكرة من الأفكار الصوفية، فمن ذلك فكرة القرب والبعد، والأنس والوحشة، والظهور
والبطون، والفناء والبقاء، والمحو والإثبات وغير ذلك، ومن ذلك قوله:
فيا باطنا
ألقاه في كل ظاهر * ويا أولا ما زال آخر فكرتي[9]
وقوله:
ولولا حديث في
الشفاعة قد أتى ** وتأويل آيات لإيناس وحشة[10]
وقوله:
محاني بها سكري وأثبتني معا **
فأعجب شيء أن ماحي مثبتي[11]
ففي هذه الأمثلة أفكار صوفية تنطوي تحت
الجمع بين الظاهر والباطن وبين الأنس والوحشة وبين المحو والإثبات، ويعرف ذلك
بالرجوع إلى كتب الصوفية، ففيها إسهاب حول دقائق ما أرادوا بهذه الألفاظ.
ومن اللافت للنظر في بنية التقابل في
شعر الغزالي وضع التقابل بين جزئي البيت، فيكون صدر البيت مقابلا للعجز، فمن ذلك
قوله:
فما شقيت نفس
أطاعته رهبة ** وما سعدت نفس عصته لرغبة[12]
وقوله:
كثيرة اللغو
في مجالسها** قليلة الذكر في مصلاها
بطيئة السعي في مصالحها ** سريعة
الجري في بلاياها[13]
فالتقابل في البيت الأول يكمن في وجود
المعنى الأول (النفس لا تشقى في طاعة الله خوفا منه) مقابلا للمعنى الثاني (النفس
لا تسعد في معصية الله رغبة في سواه)، وهذه الصورة هي التي أطلق عليها النقاد
ائتلاف الوزن مع المعنى، حيث تكون الألفاظ في تراكيبها موازية للوزن الشعري فلا
يحتاج الشاعر إلى التقديم أو التأخير أو الزيادة أو النقصان كي يستقيم وزن البيت[14].
وهذه الصيغة تزيد البيت موسيقا وجرسا أكثر من غيرها، وذلك بتساوي الفقرات وتوازن
الأجزاء المقابلة لبعضها.
وينطبق الأمر على جميع النماذج الثلاثة،
ففي كل مقابلة ثلاثة عناصر في الصدر مقابلة لثلاثة أخرى في العجز، على النحو
التالي:
النموذج
الأول
|
النموذج
الثاني
|
النموذج
الثالث
|
|||
شقيت>
أطاعته
رهبة >
|
<سعدت
<عصته لرغبة
|
كثيرة
>
اللغو> مجالسها>
|
<قليلة
<الذكر
<مصلاها
|
بطيئة
>
السعي
>
مصالحها>
|
<سريعة
<الجري
<بلاياها
|
فهذه بنية تقابلية لمعنيين ركبهما
الغزالي بجمع ثلاثة عناصر مواجهة لثلاثة أخرى، ولم يكن يريد مقابلة لفظة بلفظة، بل
مقابلة المعنى بالمعنى، لكننا إذا قمنا بتفكيك بنية اللتقابل هذه تعطي صورة واضحة
عن كيف أنتج الشاعر هذه المقابلة. وأمثلة هذا كثيرة في الديوان.
هذا، وعند تأمل الباحث للسياقات
التضادية الواردة في شعر الإمام الغزالي وجد أنه يمكن تقسيمها إلى محاور رئيسة
ويمكن تصنيف ظواهر أخرى هامشية تحتها كالتالي:
1.
المحور
التقابلي بين الحياة والموت وما جرى مجراه كمثل /النوم واليقظة/ /والمحو والإثبات/
ونحو ذلك.
2.
المحور
التقابلي بين الظاهر والباطن وما جرى مجراه كالنور والظلمة /والقرب والبعد
/والتحقيق والشك/والعلم والجهل ونحو ذلك.
3.
المحور
التقابلي بين الطاعة والعصيان وما جرى مجراه، كالسعادة والشقاوة/ والمسيء والمحسن/
والخير والشر/ الرضى والسخط/ اللغو والذكر. ونحو ذلك.
كما يوجد سياقات أخرى لا تدخل تحت السياقات
السابقة نحو العقل والنقل /والغدوة والروحة، /والأول والآخر وغير ذلك.
ففي السياق الأول الذي يتمثل في الحياة
والموت كان الشاعر يوليه اهتماما كبيرا حيث يطغى بصورة واضحة على سائر السياقات،
ففي الإحصائيات التى قام بها الباحث في تائية الغزالي وحدها- والتي تقع في366 بيتا-
حصل على ما يربو على تسعين ظاهرة تضادية، ويبلغ ورود التضاد بين الحياة الموت
بلفظهما في 11 موضعا أي حوالي 12% من بين سائر السياقات التضادية الأخرى. ومن ذلك قوله:
وأدركت ما المقصود من بدأتي
وماالـ ــمراد بإحيائي وموتي
ورجعتي[15]
وقوله:
وما كان في الإحياء والموت
حكمة وكان
محالا حكم كل شريعة
ومستبعد إحياؤنا ومماتنا سدى لا لمعنى فيه سر مشيئة[16]
إن الغزالي هنا لا يريد بهذا التضاد أن
يظهر مدى قوته وقدرته على الجمع بل يحيل المتلقى إلى ما هو أبعد من ذلك: وهو السر
الكامن وراء هاتين الظاهرتين، فالإنسان إما أن يكون بين الحياة أو الموت، إذا فما
هو السر في الإحياء، والإماتة؟ هناك سر أودعه الله في ذلك! وهذا السر أدركه
الغزالي لكنه لم يصرح به فقربه إلى المتلقي بظاهرة تضادية أخرى في البيتين وهما:
أيحسن أن تبنى قصور مشيدة بأحسن أوضاع وأجمل بنية
وتهدم عدما لا لمعنى
وإنه ليقبح هذا في العقول
السليمة.[17]
فظاهرة التضاد بين الحياة والموت أو
الإحياء والإماتة يمكن فهم سرها في مقارنتهما بظاهرة تشييد البناء وهدمه بعد كماله
وتمام حسنه وجماله وقوته.
وفي السياق الثاني المتمثل في الجمع
بين الظهور والبطون فتجد له حضور في مواضع بلفظهما من ذلك قوله:
فيا باطنا ألقاه في كل ظاهر
* ويا أولا ما زال آخر فكرتي[18]
وقوله:
ولو
هم مني خاطر بالتفاتة ** لما كان لي إلا إليك تلفتــي
ولو
لم أود الفرض مني إليّ لم ** يصح بوجه لي ولم تبر ذمتي
وكنت
على أني أوحد ظاهرا * ففي باطني قد دنت بالثنوية[19]
ففي
كلا المثالين تتجلى التضادية في إطار رباعي، ففي الأول :، الباطن الظاهر،
الأول، والآخر.. ومن المعروف أن مدار السلوك الصوفي يبدأ من هذا الإطار الرباعي،
انطلاقا من قوله تعالى: ﭽ ﯴ ﯵ
ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ
ﯼ ﯽ ﭼ [20] لذا فلا غرابة من وجوده في شعر الغزالي. أما في
البيت الثاني كان الإطار الرباعي هو: أُوَحِّد/
ظاهرا/ باطني/ والثنوية.
ومن
المحور الهامشي لظاهرة التخالف (الظهور والبطون) قوله:
علم المحجة واضح لمريده * وأرى
القلوب عن المحجة في عمى[21]
فالتضاد
الحاصل بين (واضح و عمى) ينطوي تحت محور (الظهور والبطون)، وفي الوقت نفسه تولد
توترا في جمع الشاعر بين الرؤية بوضوح وبين العمى!؟ هذا من الناحية الدلالة، ومن
الناحية الصوتية، يستخدم ألفاظ التضاد المؤثرة على المتلقي كـ (الإفشاء والسر) في
قوله:
وأفشيت
بي سري إليّ فأصبحت * وقد أعربت إذ أفصحت عنه عجمتي[22]
فجملة
إفشاء السر أينما قيلت تجذب الإنتباه، هذا من ناحية دلالتها، ومن ناحية
الحروف نجد أن حرف الشين للتفشي، ويقول عنه الدكتور حسن عباس: "وفي الحقيقة،
إن بعثرة النفَس أثناء خروج صوت هذا الحرف يماثل الأحداث التي تتم فيها البعثرة
والانتشار"[23]
والراء حرف تكرار كما أن السين يشبهه من حيث الحركة، قال الأرسوزي[24]
عنه: إنه للحركة والطلب،[25]
يقول عنه العلايلي[26]:
إنه (للسَّعة) والبسط بلا تخصص[27].
كل هذا يوحي بالعلاقة بين حروف الجملة وما تدل عليه. فلم يكن التردد الصوتي لهاتين
الظاهرتين هو السر في نجاح السياق! بل هناك عامل ثان، وهو كيفية زرع الكلمتين، حيث
اختار لهما موقعا يظهر فيه حسنهما، ويولد
لهما موسيقا أكثر، وهو وضعهما بين حرفي (بي/و إليّ)، فهذا بالطبع زاد من رونق
النسج وأكسب هذا التضاد جرسا وموسيقا.
وفي السياق الثالث المتمثل في
الطاعة والعصيان نجد ألفاظ الطاعة ونقيضه كقوله:
وصفحك عني إن عصيت تكرما ** ووعدك لي عن طاعتي بالمثوبة[28]
وصفحك عني إن عصيت تكرما ** ووعدك لي عن طاعتي بالمثوبة[28]
وهذا نوع من التقطيع الثنائي الذي
يقابل فيه العجز الصدر عن طريق المقابلة حيث نلاحظ توازي الفقرتين في الألفاظ
والمعنى. هذا، وأغلب دوال هذا السياق تأتي بما يلازم الطاعة أو العصيان كألفاظ الأمر
والنهي، المحسن والمسيء، السعادة والشقاوة، النعمة والنقمة، السخط والرضى، العذاب
والرحمة، كما في الأبيات الآتية:
إن تك يا سيدي معذبها
** من ذا الذي يرتجي لرحماها[29]
تسخطه
في رضا بريته ** تبّا لها من أجل
بلواها[30]
ولو كان لا يجزى مسيءبفعله
** ولا محسن ضاعت أمور البرية[31]
ويبلغ
هذا السياق وضع الشيطان من حيث العصيان مقابلا للملك من حيث الطاعة:
ففي العالم العلوي ذا ملك
وذا ** لدى العالم السفلي شيطان جنة
فشيطان رجم
أنت أو ملك بما ** تعانيه من فعل قبيح وعفة[32]
فهذا ما يجعل البنية التقابلية أقوى
عنصر فعال في انسجام القصيدة في شعر الغزالي من الناحية الدلالية والصوتية، حيث
ترى تلاحم بنية هذين البيتين دلاليا وصوتيا بفضل العلاقة التقابلية للمفردات، فعلى
هذا أكثر أبيات الديوان.
[1] فايز عارف القرعان (الدكتور) بنية التقابل وأثرها في توليد دلالة
النص القرآني، منتدى رابطة أدباء الشام.
[2] أحمد الهاشمى، جدواهر البلاغة. ص 303.
[3] رمضان صادق، شعر عمر ابن الفارض دراسة اسلوبية، ص 67.
[4] الديوان ص109
[5] الديوان ص64
[6] السابق ص 54
[7] الديوان ص 155
[8] الديوان ص 176
[9] الديوان ص 108
[10] المرجع السابق ص 54
[11] السابق ص 59
[12] السابق ص 57
[13] السابق ص 168
[14] إميل بديع يعقوب، (الدكتور)،المعجم المفصا في علم العروض والقافيو
وفنون الشعر، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1991-1411. ص10
[15] الديوان ص 51.
[16] الديوان ص 55- 56
[17] الديوان ص 65
[18] الديوان ص 108
[19] الديوان ص 111
[20] سورة الحديد الآية 3
[21] الديوان ص 39
[22] نفسه.
[23] حسن عباس، خصائص ومعانيها. ص113
[24] هو زكي نجيب إبراهيم
الأرسوزي مفكر سوري، ويعتبر أول مؤسس لحركة البعث. ولد باللاذقية عام 1899 وتوفي
في دمشق عام 1968 من مؤلفاته: العبقرية العربية في لسانها، رسالة الفلسفة والأخلاق،و
متى يكون الحكم ديمقراطيا.
[25] السابق ص109
[26] هو عبدالله عثمان العلايلي لغوي أديب موسوعي وفقيه مجدد لبناني
ولد 20 من نفمبر 1914 ببيروت وتوفي 3 ديسمبر 1996 من مؤلفات مقدمة لدرس لغة العرب
وأغاني الأغاني، والمعجم العسكري.
[27] المرجع السابق ص 109
[28] الديوان ص 92
[29] الديوان ص177
[30] الديوان ص 166
[31] الديوان ص55
[32] السابق ص 50
Comments
Post a Comment