أثر والتصوف والفلسفة في شعر الإمام الغزالي



أثر والتصوف والفلسفة في شعر الإمام الغزالي
طاهر لون معاذ التجاني
المحاضر بقسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو نيجيريا.[1]
 


قد يؤدي عنوان المقال إلى التساؤل الآتي: هل كان الإمام أبي حامد الغزالي شاعرا؟ والإجابة بالإيجاب! نعم، لقد كان لفيلسوف الإسلام الغزالي شعرا من الطراز الجيد، فلم يخف الغزالي إعجابه بالشعر قط، حيث تراه يكثر من الإستشهاد به في مؤلفاته وبالأخص كتاب الإحياء، وقد قام أحد الباحثين بجمع هذه الأشعار في كتاب عنوانه: المختارات الشعرية للإمام أبي حامد الغزالي من كتابه إحياء علوم الدين. ولم يتناول الأشعار التي قرضها الإمام الغزالي، بل تتبع صاحبه كتاب إحياء علوم الدين واستخرج منه الأبيات التي استشهد بها الغزالي في مواضع مختلفة بغض النظر عن صاحبه.
وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الذوق الشعري الذي يتمتع به الغزالي. تلكما الذوق والشاعرية اللتان يلح الدكتور زكي نجيب على إثباتها للغزالي كصوفي! حيث يقول: والصوفي شاعر سواء نظم القول أم نثر، فأداة الإدراك عنده هي نفسها أداة الإدراك عند الشاعر، والمعين الذي يستقي منه الصوفي والوسيلة التشبيهية لديه هي عينها عند الشاعر. ويحاول زكي نجيبتفصيل هذه النقطة بأن أداة الإدراك هي الذوق والحدس الصادق والرؤية المباشرة التي تواجه الحق مواجهة لاتترك حاجة إلى إقامة الحجج. والمعين المستقى منه هو الذات من باطن...والوسيلة هي هي الألفاظ التي توحي ولا تحدد، وتحرك ولا تقطع ثم الصور التي ينحتها صاحبها ليمثل فيها الحق وكأنما هو واقع مشهود.[1] وأهم من هذا كله ما كتبه الغزالي ببنانه عن الشعر في كتابه الإحياء؛ يقول:
        "القلوب وإن كانت محترقةً في حبِّ الله فإنَّ البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن، وذلك لوزن الشِّعر ومشاكلته للطِّباع، ولكونه مشاكلاً للطَّبع اقتدر البَشَر على نظم الشِّعر، وأمَّا القرآن فنظمه خارجٌ عن أساليب الكلام ومنهاجه، وهو لذلك معجزٌ لا يدخل في قوَّة البشر؛ لعدم مشاكلته لطبعه"[2]
 فالقطعة تعبر عن إعجاز القرآن من وجه، حيث اتسم بكونه خارجا عن نظام البشر وإن كان يأخذ بمجامع قلوبهم، ومن وجه آخر يشيد بسحر الشعر ومشاكلته الطبيعة البشرية مما يجعله يؤثر على الجميع. هذا، وقد قام الباحثون بتتبع مؤلفات الغزالي واستخرجوا منها شعره وجمعوه كديوان مستقل، ومن هؤلاء:
·       أحمد الطويلي المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة، 2011 م)، وقد طُبع بعنوان ديوان أبي حامد الغزالي.
·      مجاهد مصطفى بهجت (أكاديمية الدراسات الإسلامية، جامعة ملايا، 2009 م، وقد طُبع بعنوان (ديوان الإمام أبي حامد الغزالي)
·      محمد عبد الرحيم، وقد طُبع بعنوان «ديوان حجة الإسلام الإمام الغزالي» (دار قتيبة، 2000 م[3]
·      جميل إبراهيم حبيب، وقد طُبع بعنوان «الدرر الغوالي من أشعار الإمام الغزالي» (بغداد: دار القادسية، 1405 هـ / 1985 م
·      جلال شوقي، وقد طُبع بعنوان: (مع الغزالي في عزلته وتائيته).
·      سلمى بنت الحاج أحمد عثمان، وقد طُبع بعنوان :(الشعر الديني عند أبي حامد الغزالي)[4]. ويبدو للباحث حسب تتبعه أن هذا بحث قدم لكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر 1992م.[5]
·        كما جمعت جميع أشعار الغزالي في موقع بوابة الشعراء على الرابط التالي: http://www.poetsgate.com/poet_3155.html
ونسخة الباحث كما سبق في الفصل الأول تضم خمسا وعشرين نصا شعريا ما بين قصيدة ومقطوعة ومجموع أبياته 561. وإن كان هناك أبيات نسبت إلى الغزالي وهي ليست له. فمن ذلك قصيدة مطلعها:
قُلْ لِمَنْ يَفْهَمُ عَنِّي مَا أَقُـولْ ** قصِّرِ القَوْلَ فَذَا شَرْحٌ يَطُولْ[6]
عثر الباحث على القصيدة في كتاب الحاوي للفتاوي للحافظ جلال الدين السيوطي، في رسالة:" القول الأشبه في حديث من عرف نفسه عرف ربه" بلفظها، ونقل السيوطي كلاما طويلا عن الشيخ العز جاء فيه:
"إنك إذا كنت لا تطيق بأن تصف نفسك التي هي بين جنبيك بكيفية وأينية ولا بسجية، ولا هيكلية ولا هي بمرئية فكيف يليق بعبوديتك أن تصف الربوبية بكيف وأين وهو مقدس عن الكيف والأين. وفي ذلك أقول":
 ثم أورد الأبيات. وهي موجودة في كتاب زبدة خلاصة التصوف المسمى حل الرموز وكشف الظنون، للشيخ عبد السلام بن أحمد بن غانم المقدسي المتوفى 678هـ، وإن كان الكتاب نسب إلى العز بن عبد السلام، وهو ليس له بل للمقدسي كما في كشف الظنون لحاجي خليفة[7]. فبهذا ندرك أن القصيدة للمقدسي لا للغزالي. وهناك كلام حول نسبة بعض القصائد لا حاجة لبسطها هنا.
العومل التي كونت الغزالي شاعرا.
يرى الباحث بإن احتكاك الغزالي بالشعر عن طريق قراءته المكثفة للكتب عاملا أساسيا في تكوين شخصيته الشعرية، فقد سبق بأنه يورد أبيات للشعراء بغزارة في كتابه الإحياء، فقد استشهد بحوالي 415 بيتا شعريا في 187 موضعا من هذا الكتاب، أضف إلى ذلك تجوله في البراري وتأملاته في الكون أثناء هذه الجولة بين مظاهر الطبيعة. والغزالي بصفته صوفيا تخالج صدره أفكار الصوفية وذوقهم، فلا غرابة إن اضطر إلى اللجوء إلى الشعر لإبداعها، وقد سبق كلام زكي نجيب من أن الصوفي شاعر سواء نظم القول أم نثر، فأداة الإدراك عنده هي نفسها أداة الإدراك عند الشاعر، والمعين الذي يستقي منه الصوفي والوسيلة التشبيهية لديه هي عينها عند الشاعر.
أثر التصوف في شعر الغزالي:
إذا كان الشعر مرآة تعبر عن صميم فكر صاحبه فإن شعر الإمام الغزالي يعبر أنه صوفي من الدرجة الأولى، وبالتالي يعبر عن كونه من فلاسفة الإسلام.
والبداية بأثر التصوف في شعر الغزالي، ذلك المنهج الذي تحول إليه بكليته ودافع عنه حتى لقي ربه، وإن كان ترعرع في بيئة صوفية، لكنها لم تترك هذا الأثر الذي حصل عليه الغزالي عن طريق خوضه في المذاهب طالبا اليقين، وكانت تائيته أهم سجل يحتوي على آراءه في التصوف، وقد صاغ الغزالي جل النتائج التي توصل إليها أخيرا في عزلته في قالب شعري، حيث نرى أفكاره التي عرضها في "المنقذ" تتبلور من بداية القصيدة، فبدأ يشيد بالمعرفة التي حصل عليها في تصوفه ويقلل من وظيفة العقل في إدراك الحقائق والوصول لمعرفة الله، فهو متحير تحدث معه حالة التناقض :
ظهرت فلما أن بهرت تجليا **         بطنت بطونا كاد يقضي بردتي
فأوقعت بين العقل والحس عندما ** خفيت خلافا لا يزول بصلحة
إذا ما ادعى عقل وجودك منكرا  **  على الحس ما ينفيك قالله اثبت
وذلك أن العقل ينفيك صرة ** يراها ويرضى العقل فيك بحجة
فمن ها هنا منشا الخلاف ويصعب الوفاق بخلف في اقتضاء الجبلة.
فإن قلت لم أبصرك في كل صورة ** أراها أحالت ذاك عين بصيرتي[8]
ففي الأبيات السابقة تفرقة بين الحس والعقل فقد تنكر العين ما يثبته العقل بحجته، ثم قد تختفي الحقيقة عن العقل والحس معا، فلا هي بالصورة المنظورة ولا هي الفكرة المعقولة،ومع ذلك تراها متجلية، حتى إذا أراد مدركها بقيد العقل المنطقي؛ قيد المقدمات والنتائج، خفيت خفاء وبطنت بطونا يوشك أن يؤدي بصاحبه إلى الشك فيما قد رآه بعين البصيرة في جلاء باهر.[9] والجدير بالذكر أن الغزالي هنا يشيد بما يسميه الصوفية نور المعرفة، والذي به يعرف العبد الحقيقة بعيد عن سرد الدلائل على طريق المتكلمين.
وبالجملة تكاد تكون القصيدة مقامات ومنازل في سبيل الوصول إلى محبة الله، وقد سارت التائية على درب سائر التائيات الصوفية كنظم السلوك لابن الفارض وإن كانت تائية الغزالي أقدم.
 وتارة تأتي الأبيات في سرد فكرة من أفكار الصوفية كفكرة المعرفة، أو الوصول الذي يعبر عنه الغزالي بالقرب كقوله:
بنور تجلي وجه قدسك دهشتي ** وفيك على أن لا خفا بك حيرتي
فيا أقرب الأشياء من كل نظرة ** لأقرب شيء أنت عن كل نظرة[10]
وقوله يوبخ النفس:
لو أنها من مليكها اقتربت *** وأخلصت حبها لأدناها[11]
 كما ترى حضورا مكثفا من مصطلحات التصوف في شعره، كما سياتي.[12]
ومن الظواهر الأخرى لأثر التصوف في شعر الغزالي اللجوء للرمز، وهي سمة من سمات الشعر الصوفي، فالتصوف ذوق ويعبر الصوفية عن أحوالهم عن طريق الرموز، فالغزالي كغيره من الصوفية استخدم رمز المرأة كليلى وسعدى، كما استفاد من مصطلحات القوم كالقرب والوحشة والحجاب للتعبير عن أحواله،. فمن رمزه قوله:
حلت عقارب صدغه في خده ** قمرا فجل به عن التشبيه
ولقد عهدناه يحل ببرجها ** فمن العجائب كيف حلت فيه [13]
والأبيات كما يظهر قالها في الغزل، والغزل عند الصوفية ما هو إلا تعبير عن الحضرة الإلهية، وهذه السمة طالما استخدمها المتصوفية في أشعارهم. والمتأمل في شعر الغزالي يلتمس أفكار الصوفية مثل: الوصول والحب الإلهي وكثرة الإبتهال والإستغاثة.

أثر الفلسفة في شعر الغزالي:
وبالعودة إلى الفلسفة فإن القارئ يجد لها هيمنتها على شعر الغزالي، ففي محاولته الرد على علماء الكلام عُدّ من أكابر فلاسفة الإسلام، فقد أيد آراء الأشاعرة من أهل السنة، وحاول أن يصبغ علم الكلام بصبغة صوفية بعد أن تمكن منه المذهب العقلي والمببادئ الفلسفية.[14] تناول الغزالي الفلسفة بالتحليل التفصيلي في كتابه المنقذ، وذكر أصنافهم وأقسامهم، وما يستحقون به من التكفير بحسب رأيه، وما ليس من الدين، بذلك اعتُبر الغزالي أول عالم ديني يقوم بهذا التحليل العلمي للفلسفة، وأول عالم ديني يصنّف في علومهم التجريبية النافعة، ويعترف بصحة بعضها.ولهذا أثر بالغ في شعره، فبمجرد التفكر في شعره تجد فيه أثر الأسلوب الجدلي حتى في قصيدته التائية الصوفية، وهذا ناشئ من محاولته صبغ علم الكلام بصبغة صوفية، ومن ذلك قوله:
ولولا حديث في الشفاعة قد أى
 
وتأويل آيات لإيناس وحشة
  
لما طمعت نفس تفوز بجنة
 
إذا لم تكن من كل اثم تبرت
  
ومع ذا اختلاف الناس في ذاك ظاهر
 
تقام عليه واضحات الأدلة
  
وإن كان قد صح الخلاف فواجب
 
على كل ذي عقل لزوم التقية
  
وترك الأماني الخوادع بعد أن
 
رأى بأبيه آدم كل عبرة
  
ولو كان لا يجزي مسيء بفعله
 
ولا محسن ضاعت أمور البرية
  
وما كان في الأحياء والموت حكمة
 
وكان محالا حكم كل شريعة
  
ومستبعد إحياؤنا ومماتنا
 
سدى لا لمعنى فيه سر مشية
  
أيحسن أن تبنى قصور مشيدة
 
بأحسن أوضاع وأجمل بنية
  
وتهدم عدما لا لمعنى وانه
 
ليقبح هذا في العقول السليمة
  
وذلك شيء فعله عبث وما
 
يدبر هذا الكون بالعبثية
  
فلم يبق إلا أن يدبر أمره

حليم محيط العلم عدل الحكومة
  
فهذا خطاب فلسفي في قالب شعر صوفي، حيث يحتج لابن آدم العاصي أن يتذكر حتمية الحساب وحكمة الحياة والموت بل إن هناك إله خالق قدير مدبر عالم عادل حليم، والأولى بالعبد أن بيتعد عن الرذائل والنقائص والمهلكات.[15]
ووعلى هذا يرى الباحث أن أثر الفلسفة في شعر الغزالي كانت من حيث الاحتجاج على الفلاسفة، لأنه ما قصد الفلسفة أصلا، بل عُدّ من كبار هذا المجال برده على المتكلمين والفلاسفة، كما أن أغلب شعره-كما يشير مضمونها- قالها بعد أن اهتدى إلى التصوف وفي أثناء عزلته، فلذا هيمن عليها التصوف من ناحية الأفكار؛ والفلسفة من ناحية الطرح والاحتجاج.





[1] طاهر لون معاذ التجاني: مواليد 1983 بمدينة كنو نيجيريا,  وحاصل على درجة البكلوريوس والماجستير في اللغة العربية ومحاضر في قسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو، نيجيريا.


[1] زكي نجيب محمود (الدكتور) القصيدة التائية للإمام الغزالي, ضمن الدراسات والبحوث المقدمة للمؤتمر المنعقد في دمشق عام 1961م بعنوان " أبو حامد الغزالي في ذكرى المأوية التاسعة لميلاده"ص 259
[2] إحياء علوم الدين للغزالي تحقيق بدوي طبانة, ج2 ص 398
[3] . محمد عبد الرحيم، «ديوان حجة الإسلام الإمام الغزالي دار قتيبة، 2000 م
[4] ترجمة الغزالي على صفحة ويكبيديا:  أبو_حامد_الغزاليwww.ar.wikipedia.org/wiki/
[5] الكتاب في موقع www.books.google.com 
[6] ديوان حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ص149-151.
[7] حاجي خلييفة, مصطفى عبد الله: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون, ج1 دار إحياء التراث العربي, بيروت 1941ص 686
[8] الديوان ص 45
[9] زكي نجيب محمود (الدكتور) القصيدة التائية للإمام الغزالي مرجع سابق ص  262
[10] الديوان ص 44
[11] السابق ص 165
[12] سيناقش الباحث في المستوى المعجمي قضية استلهام الغزالي للمصطلحات الإسلامية والصوفية والفلسفية.
[13] الديوان ص 178
[14] إبراهيم بيومي مدكور, "الغزالي الفيلسوف" ضمن الدراسات والبحوث المقدمة للمؤتمر المنعقد في دمشق عام 1961م بعنوان " أبو حامد الغزالي في ذكرى المأوية التاسعة لميلاده" ص 212
[15] جلال شوقي (الأستاذالدكتور) مع الغزالي في عزلته وتائيته.بدون معلومات النشر.

Comments

Popular posts from this blog

SALLAR TARAWIHI DA TAHAJJUDI DA YADDA AKE YINSU

من خواص أذكار الطريقة التجانية حزب البحر للإمام الشاذلي

TARIHIN WAFATIN ANNABI SAW 1 DAGA TAHIR LAWAN MUAZ ATTIJANEEY