الصوفية بين "الإفْصاح والكِتمان" وبين البوْح والإسْرار


بقلم الداعية الإسلامية زينب البعقيلي
~~\~~~~
*...في القرن الرابع الهجري (ق. 4هـ) انقسمت الصوفية إلى قسمين: صوفية عرفت ربها بالإيمان ووصلت إليه بالقلب ووقفت عند شرعه وأحكامه تعالى. وفئة من أصحاب المواجيد والأحوال دخلت في دائرة الشطح والفناء والحلول، مما جرَّ على الفئة الأولى الويلات! فاختلط لدى هؤلاء المحبين من"أصحاب الحال"، الحاضرُ بالماضي والحقيقةُ بالخيال واختلط عليهم الزمن والمكان، أمثال الحلاج والشبلي وابن يزيد الذين أسقطوا عنهم بعض التكاليف! لا تهاونا بها ولكن ظنا منهم أنهم في حالة شهود دائم، ففضحوا أنفسهم في حالة إفصاح، في كتاباتهم وأشعارهم كنسيانهم للذكر وللصلاة في بعض الأحيان، مع العلم أن الذكر هو روح التصوف. إن هذا الشطح والانفصام غريب بالنسبة للإنسان العادي، ولكنه ليس غريبا بالنسبة لهم ولأمثالهم ممن أعطاهم حبهم الجارف الشعورَ باليقين والجرأة في التعبير !ما كان لهم أن يُقحِموا المسلمينَ في تجربتهم الشخصية لأنها فردية ولا تخضع للتجربة ولا للمعاينة ولا حتى للذوق السليم. وما كان لهم أن يتكلموا أمام العامة وهم في غيبة عن الوعي وفي حالة سُكرٍ وِجداني. ما داموا لا يستطيعون حصرَ تدفق الفيوضات التي يشعرون بها لحد التغني بها. فالصوفية السنية لا يخلو أصحابُها أيضا من المواجيد والشهود، ومع ذلك ضبطوا أنفسهم، فكان منهم من يردُّ نفسَه إلى الوعي، لما صرح به أحدُ الواصلين ناصحا تلامذته: "- إننا أصحاب مقام لا أصحاب أحوال. فإذا أخذك الحال فرُدَّ نفسك تَوًّا إلى المقام." انتهى
مِن كلامهم نعرفُ نواياهم ونرصدُ مقاصدَهم
ـ يقول الحلاج (وهوالذي له ما له وعليه ما عليه،) موضحا في إنشاده وِجهة نظره في تجربة الفناء، وكيف أنه يرى الله بعين بصيرته، وحالة المشاهدة التى هو فيها تجعله في غنىً حتى عن الذكر نفسِه!
رأيـتُ ربـي بعـيـن قلبــي فقلتُ مـن أنت. قـال أنت أنـا
الذكرُ واسطة تُخفيك عن نظري إذا توشحه من خاطري فكـري
ـ ويقول الشبلي حين نسيَ صلاتَه مِن وَجـْده:
نسيت اليومَ من عشقـي صلاتـي فلا أدري عشـائي مـن غـذاتـي
ـ وقالت رابعة العدوية زاهدة في الجنة بغية رؤية وجه ربها تعالى:"- إلهي! اجعل الجنة لأحبابك والنار لأعدائك، أما أنا فحسبـي أنتَ." انتهى
ظهر في هذا الخِضَمِّ من الآراء من يَرُد الفكر الإسلامي إلى حضيرة الوعي والشعور كالشبلي الذي اعـتذر عن فكرة الإفصاح وكذلك الجنيد وذي النون، وأمثالهم ممن عارضوا الحلاج، وإن كانوا لا يُنكرون عليه حالات الإفصاح والكتمان، لما فيهما من الصدق والإخلاص، بالإضافة إلى التناقض في المشاعر والأعراض الوجدانية، وتأرجح الأحوال بين القبض والبسط وبين السكوت والحركة والخوف والطمأنينة .
ـ فحتى" ذو النون" تعرض بدوره للتجليات و لمقاومة البَوْح بحبه، حتى قال مُخاطبا الحقَّ تعالى:
حبُّـك قـد أرَّقـني ** وزاد قلبي سقـما
كتمته في القلب واْلـ ** ـأَحْشاءِ حتى انكتما
لا تهتك السرّ الذي**  ألبـسـتني تـفـضلا
ويقول مخاطبا الحلاَّجَ وأتباعه بأن الذكر لابد منه، رغم ما يشعرون به من درجة الوصول:
لا لأني أنساك أكُثِرُ ذكراكـَ، ولكن بذاك يجري لساني
ـ ويقول الشبلي:
ذكرتكَ لا لأني نسيتُكَ لمحةً ** وأيسَرُ ما في الذكر ذكرُ اللسان
• الصوفي الكامل مَن أحسن إدارةَ أحواله وتمكنَ من أدواته التعبيرية:
إن أدوات التعبير قد تساعد الصوفي أو تخونه للثورة العارمة التي تهزه من الداخل وللمشاعر المتضاربة. فنراه قد يُفصح أو يكتم أو يضحك أو يبكي أو يسعد أو يحزن في نفس اللحظة. ومَنْ تحكم في وجدانه بالإسرار والإخفاء، فإنه لا يمنع نفسه من الإحساس وكأنه يحترق من لهيب الشوق وأنوار الأسرار. فالشبلي يفرق بينه وبين الحلاج قائلا:
"- كنتُ أنا والحسين بن منصور الحلاج شيئا واحدا إلا أنه أظهرَه وكتمتُ." ( أي كانا في نفس الاتجاه وفي نفس الشعور القوي بالوجد.)
ـ وقال ابن العربي منشدا:
رُبَّ جوهر علمٍ لو أبوح به لقيلَ لي أنت ممن يعبد الوثنا
ـ وقال: "- ولقد وقعتْ لنا وللعارفين بالله أمورٌ ومِحن بواسطة إظهارنا للمعارف والأسرار وشهدوا فينا بالزندقة، و ءاذونا أشد أذى. وصبرنا، كنَبِيّ كذَّبه قومُه، وما آمن معه إلا القليل." ( من كلام الشيخ ابن العربي في كتاب "الحلل الزنجفرية"  للشيخ سيدي محمد أكنسوس)
*المرجع:
من كتابي" دعوة للمصالحة الدينية"

Comments

Popular posts from this blog

SALLAR TARAWIHI DA TAHAJJUDI DA YADDA AKE YINSU

من خواص أذكار الطريقة التجانية حزب البحر للإمام الشاذلي

TARIHIN WAFATIN ANNABI SAW 1 DAGA TAHIR LAWAN MUAZ ATTIJANEEY