حسن المقصد في عمل المولد للحافظ السيوطي 2





وقد ادعى الشيخ تاج الدين عمر بن على اللخمي الكندرى المشهور بالفاكهاني من متأخرى المالكية أن عمل المولد بدعة مذمومة، وألف في ذالك كتابا سماه "المورد في الكلام على عمل المولد" وأنا أسوقه هنا برمته، وأتكلم عليه حرفا حرفا.
قال رحمه الله: الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء آثار السلف الصالحين، حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والإبتداع في الدين، أحمده على ما من به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أما بعد فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين، عن الإجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه "المولد" هل له أصل في الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذالك مبينا، والإيضاح عنه معينا فقلت وبالله التوفيق.
لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو محرما، وليس بواجب إجماعا، ولا مندوبا، لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون (ولا العلماء) المتدينون، فيما علمت. وهذا جوابي عنه بين يدى الله تعالى إن عنه سئلت، ولا جائز أن يكون مباحا، لأن الإبتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين، فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو حراما، وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين.
أحدهما:أن يعلمه رجل من عين ماله، لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزن في ذلك الإجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئا من الآثام، وهذا الذى وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين فقهاء الإسلام، وعلماء الأنام، سرج الأزمنة، وزين الأمكنة.
والثانى:- أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطى أحدهم الشىء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤجعه، لما يجد من ألم الحيف. وقد قال العلماء: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف، لا سيما إن انضاف إلى ذالك شىء من الغناء مع البطون الملأت بألات الباطل من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهن أو مشرفات، والرقص بالتثنى والإنعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان مختلطات بهن أو مشرفات، والرقص بالتثنى والإنعطاف والإستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذالك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهتيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: "إن ربك لبالمر صاد[1]"، وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يخلو ذالك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات المحرمات، فإنا لله وإنا إليه راجعون بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ[2]، ولله در شيخنا القشيرى حيث يقول فيما أجازناه:
قد عرف المنكر واستنكر المعروف في أيامنا الصعبة:
وصار أهل العلم في وهدة        *     وصار أهل الجهل في رتبة
حادوا عن الحق، فما للذي       *     ساروا به فيما مضى نسبه
فقلت للأبرار أهل التقـى  *     والدين لما اشتدت الكربه
لا تنكروا أحوالكم قد أتت *     نوبـتكم في زمن الغربه
ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء حيث يقول:- لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجبن هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم – وهو ربيع الأول – هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه، وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجوا حسن القبول.
هذا جميع ما أورده الفاكهاني في كتابه المذكور، وأقول:
أما قوله: فلا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة "فيقال عليه: نفى العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد استخرج له إمام الحفاظ أبو الفضل أحمد بن حجر أصلا من السنة، واستخرجت له أنا أصلا ثانيا: وسيأتى ذكرهما بعد هذا.
وقوله:- "طبل" بدعة أحدثها البطالون" إلى قوله: "ولا العلماء المتدينون" يقال عليه: تقدم أنه أحدثه ملك عادل عالم، وقصد به التقرب إلى الله تعالى، وحضر عنده فيه العلماء من غير نكير منهم، واتضاه ابن دحية، وصنف له من أجله كتابا، فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه.
وقوله: قولا مندوبا، لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع" يقال عليه: إن الطلب في المندوب تارة يكون بالنص وتارة يكون بالقياس، وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس على الأصلين الآتى ذكرهما.
وقوله: "ولا جائز أن يكون مباحا، لأن الإبتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين" كلام غير مسلم، إن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه، بل قد تكون أيضا مباحا ومندوبة وواجبة.
قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد: البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة. قال: والطريق في ذالك أن نعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهى محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة، وذكر لكل قسم من هذه الخمسة أمثلة، إلى أن قال: وللبدع المندوبة أمثلة، منها: إحداث الربط والمدارس، وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها التروايح، والكلام في دقائق التصوف وفي الجدل، ومنها جمع المحافل للإستدلال في المسائل إن قصد بذالك وجه الله تعالى.
وروى البيهقى بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي، قال: المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة.
والثانى: ما أحدث من الخير، لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر رضى الله عنه في قيام شهر رمضان "نعمت البدعة هذه" يعنى أنها محدثة لم تكن، وإذ كانت فليس فيها رد لما مضى – هذا آخر كلام الشافعي.
فعرف بذالك منع قول الشيخ تاج الدين "ولا جائز أن تكون مباحا" إلى قوله: "وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة – إلا آخره، لأن هذا القسم مما أحدث وليس فيه مخالفة ولا سنة ولا أثر ولا إجماع، فهى غير مذمومة كما في عبارة الشافعي، وهو من الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول، فإن إطعام الطعام الخالي عن اقتراف الآثام إحسان، فهو من البدع المندوبة كما في عبارة ابن عبد السلام.
وقوله: "والثانى – إلى آخره" هو كلام صحيح في نفسه، غير أن التحريم فيه إنما جاء من قبل هذه الأشياء المحرمة التي ضمت إليه، لا من حيث الإجتماع فظهر شعار المولد، بل لو وقع مثل هذه الأمور في الإجتماع لصلاة مثلا لكانت قبيحة شنيعة، ولا يلزم من ذالك ذم أصل الإجتماع لصلاة الجمعة كما هو واضح، وقد رأينا بعض هذه الأمور يقع في ليال من رمضان غند اجتماع الناس لصلاة التروايح، فهل يتصور ذم الإجتماع لصلاة التروايح لأجل هذه الأمور التى قرنت بها؟ كلا! بل نقول: أصل اجتماع لصلاة التروايح سنة وقربة، وما ضم إليها من هذه الأمور قبيح وشنيع، وكذالك نقول: أصل الإجتماع لإظهار شعار المولد مندوب وقربة، وما ضم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع.
وقوله: "مع أن الشهر الذي ولد فيه – إلى آخره" جوابه أن يقال أولا: إن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النعم علينا، ووفاته أعظم المصائب لنا، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم، والصبر والسكون والكتم عند المصائب، وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة، وهى إظهار شكر وفرح بالمولود، ولم يأمر عند الموت بذبح ولا بغيره، بل نهى عن النياحة ولم ينه عن ظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم، دون إظهار الحزن فيه بوفاته.
وقد قال ابن رجب في كتاب اللطائف في ذم الرافضة، حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتما لأجل قتل الحسين: لم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما، فكيف بمن هو دونهم؟.


[1] - من الآية 41 من سورة الفجر.
[2] - هذا جزء من حديث، وهو بتمامه "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى الغرباء".

Comments

Popular posts from this blog

SALLAR TARAWIHI DA TAHAJJUDI DA YADDA AKE YINSU

من خواص أذكار الطريقة التجانية حزب البحر للإمام الشاذلي

TARIHIN WAFATIN ANNABI SAW 1 DAGA TAHIR LAWAN MUAZ ATTIJANEEY