حسن المقصد في عمل المولد للحافظ السيوطي 3
وقد تلكلم الإمام أبو عبد الله بن الحاج
في كتابه "المدخل على عمل المولد" فأتقن الكلام فيه جدا، وحاصله مدح ما
كان فيه من إظهار شعار وشكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومنكرات، وأنا أسوق
كلامه فصلا فصلا، قال:
فصل في المولد
ومن جملة ما أحدثوه من البدع – مع اعتقادهم
أن ذالك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر – ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من
المولد، وقد احتوى ذالك على بدع ومحرمات جمة، فمن ذالك استعمالهم المغاني ومعهم آلات
الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذالك مما جعلوه آلة للسماع، ومضوا في ذالك
على العوائد الذميمة في كونهم يشتغلون في أكثر الأزمنة التي فضلها الله تعالى وعظمها
ببدع ومحرمات، ولا شك أن السماع في غير هذه الليلة فيه ما فيه، فكيف به إذا انضم إلى
فضيلة هذا الشهر العظيم الذي فضله الله تعالى وفضلنا فيه بهذا الني الكريم، فآلة الطرب
والسماع أي نسبة بينها وبين تعظيم هذا الشهر الكريم الذي من الله علينا فيه بسيد
الأولين والآخرين، فكان يجب أن يزاد فيه من العبادات والخير شكرا للمولى على ما
أولانا به من النعم العظيمة، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد فيه على
غيره من الشهور شيئا من العبادات، وما ذالك إلا لرحمته صلى الله عليه وسلم بأمته
ورفقه بهم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يترك العمل خشية أن يفرض على أمته رحمة
منه بهم، لكن أشار عليه السلام إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله
عن صوم يوم الإثنين: "ذاك يوم ولدت فيه" فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا
الشهر الذي ولد فيه، فينبغى أن نحترمه حق الإحترام، ونفضله بما فضل الله به الأشهر
الفاضلة، وهذا منها، لقوله عليه السلام: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"
"آدم فمن دونه تحت لوائى" وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله به من
العبادات التي تفعل فيها، لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تشرف لذاتها، وإنما يحصل
لها التشريف بما خصت به من المعاني، فانظر إلى ما خص الله به هذا الشهر الشريف ويوم
الإثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فضل عظيم، لأنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه؟ فعلى
هذا ينبغى إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الإحترام اللائق به اتباعا
له صلى الله عليه وسلم في كونه كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة
الخيرات، ألا ترى إلى قول ابن عباس: "كان رسول الله عليه وسلم أجود الناس بالخير،
وكان أجود ما يكون في رمضان" فنمثل تعظيم الأوقات الفاضلة بما امتثله على قدر
استطاعتنا.
فصل: فإن قال قائل: قد
التزم عليه الصلاة والسلام في الأوقات الفاضلة ما التزمه مما قد علم، ولم يلتزم في
هذا الشهر ما التزمه في غيره، فالجواب أن ذالك لما علم من عادته الكريمة أنه يريد التخفيف
عن أمته، سيما فيما كان يخصه، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم حرم المدينة مثل ما
حرم إبراهيم مكة، ومع ذالك لم يشرع في ثتل صيده ولا في قطع شجره الجزاء، تفيفا على
أمته ورحمة بهم، فكان ينظر غلى ما هو من جهته وإن كان فاضلا في نفسه فيتركه
للتخفيف عنهم، فعلى هذا فتعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال
الزاكيات فيه والصدقات، إلى غير ذالك من القربات، فمن عجز عن ذالك فأقل أحواله أن يجتنب
ما يحرم عليه ويكره له تعظيما لهذا الشهر الشريف، وإن كان ذالك مطلوبا في غيره إلا
أنه في هذا الشهر أكثر احتراما، كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرم، فيترك الحدث
في الدين، ويجتنب مواضع البدع وما لا ينبغى، وقد ارتكب بعضم في هذا الزمان ضد هذا المعنى،
وهو أنه إذا دخل هذا الشهر العظيم تسارعوا فيه إلى واللعب بالدف والشبابة وغيرها، وياليتهم
عملوا المغاني ليس إلا، بل يزعم بعضهم أنه يتأدب فيبدأ المولد بقراءة الكتاب العزيز،
وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالتهوس والطرق المهيجة لطرب النفوس، وهذا فيه وجوه من
المفاسد، ثم إنهم لم يقتصروا على ما ذكر، بل ضم بعضهم إلى ذالك الأمر الخطر، وهو
أن يكون المغنى شابا لطيف الصورة حسن الصوت والكسوة والهيئة فينئذ التغزل ويتكسر
في صورته وحركاته، فيفتن بعض من معه من الرجال والنساء، فتقع الفتنة في الفريقين،
ويثور من المفاسد مالا يحصى، وقد يؤول ذالك في الغالب إلى فساد حال الزوج وحال
الزوجة، ويحصل الفراق والنكد العاجل وتشتت أمرهم بعدهم جمعهم، وهذه المفاسد مركبة على
فعل المولد إذا عمل بالسماع، فإن خلا منه وعمل طعاما فقط ونوى به المولد ودعا إليه
الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، لأن ذالك زيادة في
الدين، وليس من عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى، ولم ينقل عن أحد منهم أنه
نوى المولد، ونحن تبع فيسعنا ما وسعهم، انتهى.
وحاصل ما ذكره أنه لم يذم المولد، بل ذم
ما يحتوي عليه من المحرمات والمنكرات، وأول كلامه صريح في أنه ينبغي أن يخص هذا الشهر
بزيادة فعل البر وكثرة الخيرات والصدقات وغير ذالك من وجوه القربات، وهذا هو عمل
المولد الذي استحسناه، فإنه ليس فيه شىء سوى قراءة القرآن وإطعام الطعام، وذالك خير
وبرو قربة، وأما قوله آخرا "إنه بدعة" فإما أن يكون مناقضا لما تقدم، أو
يحمل على أنه بجعة حسنة كما تقدم تقريره في صدر الكتاب، أو يحمل على أن فعل ذالك خير
والبدعة منه نية المولد كما أشار إليه بقوله: "فهو بدعة بنفس نيته فقط" وبقوله:
"ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد" فظاهر هذا الكلام أنه كره أن
ينوى به المولد فقط، ولم يكره عمل الطعام ودعاء الإخوان إليه، وهذا إذا حقق النظر
لا يجتمع مع أول كلامه، لأنه حث فيه على زيادة فعل البر وما ذكر معه على وجه الشكر
لله تعالى، إذ أوجد في هذا الشهر الشريف سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهذا هو
معنى نية المولد، فكيف يذم هذا القدر مع الحث عليه أولا؟ وأما مجرد فعل البر وما
ذكر معه من غير نية أصلا فإنه لا يكاد يتصور، ولو تصور لم يكن عبادة ولا ثواب فيه،
إذ لا عمل إلا بنية ولا نية هنا إلا الشكر لله تعالى على ولادة هذا النبى الكريم في
هذا الشهر الشريف، وهذا معنى نية المولد، فهي نية مستحسنة بلا شك، فتأمل.
ثم قال ابن الحاج: ومنهم من يفعل المولد
لا لمجرد التعظيم، ولكن له فضة عند الناس متفرقة كان قد أعطاها في بعض الأفراح والمواسم،
ويريد أن يستردها ويستحيى أن يطلبها بذاته، فيعمل المولد حتى يكون ذالك سببا لأخذ
ما اجتمع له عند الناس، وهذا فيه وجوه من المفاسد، منها: أنه يتصف بصفة النفاق،
وهو أنه يظهر خلاف ما يبطن، إذ ظاهر حاله أنه عمل المولد يبتغى به الدار الآخرة
وباطنه أنه يجمع به فضة، ومنهم من يعمل المولد لأجل الدراهم أو طلب ثناء الناس
عليه ومساعدتهم له، وهذا أيضا فيه من المفاسد ما لا يخفى، انتهى.
وهذا أيضا من نمط ما تقدم ذكره، وهو أن
الذم فيه إنما حصل من عدم النية الصالحة، لا من أصل عمل المولد.
Comments
Post a Comment