حسن المقصد في عمل المولد للحافظ السيوطي 4
وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو
الفضل أحمد بن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعو لم تنقل عن
أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذالك قد اشتملت على محاسن
وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، وإلا فلا.
قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو
ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون
يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هنو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى، فنحن نصومه
شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة
أو دفع نقمة، ويعاد ذالك في نظير ذالك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة
كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأى نعمة أعظم من النعمة هذا النبى نبى الرحمة في
ذالك اليوم؟ وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم
عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذالك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم
فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله.
وأما ما يعمل فيه فينبغى أن يقتصر فيه على
ما يفهم الشكر لله تعالى، من تحو ما تقدم ذكره: من التلاوة، والإنعا، والصدقة، وإنشاد
شىء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة،
وأما ما يتبع ذالك من السماع واللهو وغير ذالك فينبغى أن يقال: ما كان من ذالك مباحا
بحيث يقتضى السرور بذالك اليوم لا بأس بإلحاقه، وما كان حراما أو مكروها فيمنع،
وكذا ما كان خلاف الأولى، انتهى.
قلت: وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو
ما أخرجه البيهقى عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، مع أنه
قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل
ذالك على أن الذى فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة
للعالمين وتشريع لأمته، كما كان يصلي على نفسه لذالك، فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر
بمولده: بالإجتماع، وإطعام الطعام، ونحو ذالك من وجوه القربات، وإظهار المسرات.
ثم رأيت إمام القراء الحافظ شمس الدين بن
الجزري قال في كتابه المسمى "عرف التعريف، بالمولد الشريف" ما نصه: قد رؤي
أبو لهب بعد موته في النوم، فقبل له: ما حالك؟ فقال: في النار، إلا أنه يخفف عني كل
ليلة اثنين وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا – وأشار لرأس أصبعه – وإن إعتاقي لثويبة
عند ما بشرتنى بولادة النبى صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان أبو لهب الكافر الذي أتى القرآن
بذهم جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به، فما حال المسلم الموحد
من أمة النبي صلى الله عليه وسلم: يسر بمولده، ويبدل ما تصل إليه قدرته في محبته
صلى الله عليه وسلم؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم، أن يدخله بضفله جنات النعيم.
وقال الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي
في كتابه المسمى: "مورد الصادي، في مولد الهادي": قد صح أن أبا لهب يخفف
عنه عذاب النار في مثل يوم الإثنين لإعتاقه ثويبة سرورا بميلاد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ثم أنشد:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه * وتبت
يداه في الجحيم مخـلدا
أتى أنه في يوم الإثنين دائما * يخفف
عنه للسرور بأحـمد
فما الظن بالعبد الذي طول عمره* بأحمد مسرورا ومات موحدا
قال
الكمال الأفودي في الطالع السعيد: حكى لنا العدل ناصر الدين محمود بن العماد أن أبا
الطيب محمد بن إبراهيم السبتي المالكي نزيل (قوص) أحد العلماء العاملين كان يجوز بالكتب
في اليوم الذى فيه ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا فقيه، هذا يوم سرورا
صرف الصبيان، فيصرفنا، وهذا منه دليل على تقريره وعدم إنكاره، وهذا الرجل كان
فقيها مالكيا متفننا في علوم متورعا، أخذ عنه أبو حيان وغيره، ومات سنة خمس وتسعين
وستمائة.
فائدة:
قال ابن الحاج: فإن قيل: ما الحكمة في كونه صلى الله عليه وسلم خص مولده الكريم بشهر
ربيع الأول ويوم الإثنين، ولم يكن في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وفيه ليلة القدر،
ولا في الأشهر الحرم، ولا في ليلة النصف من شعبان، ولا في يوم الجمعة وليلتها؟
فالجواب
من أربعة أوجه:
الأول:
ما ورد في الحديث من أن الله خلق الشجر يوم الإثنين، وفي ذالك تنبيه عظيم، وهو أن خلق
الأقوات والأرزاق والفواكه والخيرات التي يمتد بها بنو آدم ويحيون، وتطيب بها
نفوسهم.
الثانى: أن في لفظة "ربيع" إشارة
وتفاؤلا حسنا بالنسبة إلى اشتقاقه، وقد قال أبو عبد الرحمن الصقلى: لكل إنسان من
اسمه نصيب.
الثالث: أن فضل الربيع أعدل الفصول وأحسنها،
وشريعته أعدل الشرائع وأسمحها.
الرابع: أن الحكيم سبحانه أراد أن يشرف
به الزمان الذي ولد فيه، فلو ولد في الأوقات المتقدم ذكرها لكان قد يتوهم أنه
يتشرف بها.
تم الكتاب ولله الحمد والمنة.
Comments
Post a Comment