الصوت في شعر الإمام الغزالي
الإيقاع الداخلي.
الإيقاع
الداخلي عبارة عن موسيقا خفية تنبع من اختيار الشاعر لكلماته وما بينها من تلاؤم
في الحروف والحركات،[1]
وهذا ناتج من تفاعل الحالة النفسية للشاعر وحالته الفيزيولوجية، فالأصوات تذبذبات
فيزيائية تثير حاسة السمع، فالشاعر يتأثر فينتج أصواتا منتظمة بإيقاع يحمل معان
تثير القارئ.[2]
ومن
أهم الصور التي يمكن رصد هذه الظاهرة في الشعر العربي هو البديع، وهو علم يعرف به
وجوه تحسين وتزيين الكلام وكطيف يزيد الكلام رونقا وبهاء. والتحسين والتزيين في
الشعر ليس أمرا إضافيا أو شكليا كما يتوهم البعض، صحيح أن الزينة أمر لاحق بأصل
المادة، لكنها في معرض الحديث عن النصوص اللغوية ينظر إليها نظرة أخرى، حيث تأخذ
أبعادا صوتية توحي بدلالة نفسية عميقة تأخذنا إلى اختيارات صاحب النص في نسج
الأسلوب. فعلى هذا كان الإيقاع في الشعر مهما اختلفت أشكاله إنما هو إيقاع موظف
لخدمة المعنى على نحو فني.[3]
وكانت
فاتحة العصر العباسي مهْدًا لتدفق الحضارات الأجنبية إلى المنطقة العربية وأثرت على العرب وثقافتهم، وتعالت الأصوات
بالدعوة إلى التغيير والتحويل عن النمط المعهود في الفن، فنال الشعر من هذا
تغييراتٌ جذريةٌ، شملت الإطار العام بل وتعدى إلى تغييرات في كيفية صياغة الصورة
وتراكيب الالفاظ[4].
فالإمام
الغزالي عاش في أواخر العصر العباسي وبالتحديد عندما ضعفت الدولة، وشهد تلكم
التغييرات بأسرها، أضف إلى ذلك أن تلك الصنعة البديعية استجابة لمطلب حضاري ملح
واستسلام لمنظور جمالي جديد فرضته تلك الحضارات المتسربة إلى الحضارة العربية التي
انهل منها الغزالي فجاء شعره حافلا بهذه الظواهر البديعية، وهذا بالطبع أكسب شعره
رونقا وإيقاعا موسيقيا يظهر لنا مدى إلمامه بثقافة عصره، كما أن ثقافته الصوفية
أكسبت شعره أبعادا وإيحاءات عميقة نستخرجها من خلال استعمال الشاعر لظواهر بديعية
معينة.
وسوف
يتتبع الباحث في هذا المبحث بنية التكرار وبنية التقابل.
أولا
بنية التكرار:
التكرار
ظاهرة أسلوبية حظيت باعتناء النقاد القدامى والمحدثين، وقد نص على أهميته القدامى
لكنهم قيدوا فصاحته بتكرار اللفظ دون المعنى، وفي ذلك يقول ابن رشيق القيرواني
"وللتكرار مواضع يحسن فيها، ومواضع يقبح فيها، فأكثر ما يقع التكرار في
الألفاظ دون المعانى، وهو في المعاني دون الألفاظ أقل، فإذا تكرر اللفظ والمعنى
جميعاً فذلك الخذلان بعينه"[5]
ولكن البعض يرى أنه غير معيب إذا كان المقام يتطلب ذلك، وإلا فهو العيب[6].
ويقول ابن فارس إن التكرير والإعادة سُنن العرب وهو إرادةَ الإبلاغ بحسب العناية
بالأمر.[7]
وينوه
السيوطي في الإتقان بمنزلة التكرار في نسج الكلام وتقريره حيث قال بأن التكرار أبلغ
من التأكيد وهو من محاسن الفصاحة خلافا لبعض من غلط وله فوائد.[8]
ثم سرد تلكم الفوائد الكثيرة. وبناءعلى هذا نرى النقاد القدمى يعددون الفوائد
للتكرار، وهو أشبه بطريقة النقاد المحدثين في تعليل ظاهرة التكرار، إلا أن
الأسلوبيين المحدثين أعمق من حيث ربط ظواهر التكرار بالواقع النفسي والإجتماعي
وجميع الظروف المحيطة بصاحب النص، فقد رصدوا له أنواعا وأشكالا منها:تكرار الكلمة
والعبارة والتكرار الاستهلالي والبياني والمقطعي والهندسي والدائري والبنيوي
والنسقي المشجر وتكرار التقسيم.[9] خلافا
للقدامى الذين قسموه إلى لفظي ومعنوي كما يُفهم من عبارة ابن رشيق وغيره.
وأما المحدثون فجعلوا
التكرار ظاهرة أسلوبية هامة، وتقنية من تقنيات بناء الشعر يؤدي وظيفة هامة في
إيصال المعنى للمتلقين ولفت أنظارهم إلى
النص. أضف إلى ذلك إسهامه في تلاحم القصيدة وربط جزئيات البيت أوربط بيت
وغيره من الأبيات بعلائق وروابط تشكل لحمة القصيدة.[10] كما
أنهم رفضوا فكرة كون التكرار خذلانا إذا تكرر في اللفظ والمعنى، وإن كان بعضهم
يقول برداءته إذا لم يكن له صلة قوية بالدلالة. ومن النقاد الذين ذهبوا إلى هذا
نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر ، وتقول بأن القاعدة الأولية للتكرار
أن يكون المكرر وثيق الإرتباط بالمعنى. كما عمدت إلى أساليبه وقسمته إلى تكرار
الكلمة وتكرار العبارة وتكرار المقطع وتكرار الحرف.[11]
ويُفهم من كلام نازك
الملائكة شمولية التكرار، ليشمل مصطلحات البلاغة الأخرى، كالجناس والتصدير
والترديد والتطريز والمماثلة ووالتصريع والترصيع. خلافا للقدامى الذين جعلوه بابا
مستقلا عن جميع هذه المصطلحات.
وتنتهي نازك الملائكة
إلى أن للتكرار كله فائدة إيجابية تذهب إلى أبعد من مجرد التحلية.[12] وأنه إلحاح
على جهة هامة في العبارة، يعنى بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها.[13] وعلى
غرار هذا سار الأسلوبيون في تحليلهم للنصوص. وسوف يتناول الباحث شعر الغزالي لرصد
أنواع التكرار مركزا على محور التجنيس والترصيع.
يتبع...
[1] شوقي ضيف, في النقد الأدبي, دار المعارف القاهرة, ط9 1955م
[2] مجيد صالح بك, كبرى راستكو, الإيقاع الداخلي في شعر عمر ابن
الفارض,دراسة بنيوية شكلية,مجلة العلوم الإسلامية الدولية, العدد (20)
2013م1434هـــ ص87 نقلا عن عزيز وفا,صور الزورياتفي شعر الصنوبري, دراسة أسلوبية,
رسالة ماجيستر 2010م
[3] شلبي, طارق سعد, (الدكتور) الصوت والصورة في الشعر الجاهلي شعر
عبيد ابن الأبرص نموذجا, دار الفردوس, 2006.
[4] رمضان صادق, شعر عمر ابن الفارض دراسة اسلوبية. الهيئة
المصرية العامة الكتاب 1998 ص49 بتصرف.
[5] القيروانى, ابن رشيق, أبو على الحسنى: العمدة في محاسن الشعر
وآدابه ونقده, المكتبة العصرية. 2012/1433 ج2 ص92.
[6] الحولي, فيصل حسن, التكرار في الدراسة النقدية بين الأصالة
والمعاصرة, رسالة مقدمة لعمادة الدراسة العلي تكملة لمتطلبات الماجستير, جامعة
مؤتة الأردن, 2011 تحت إشراف أ.د. إبراهيم البعول. ص 8.
[7] ابن فارس, أحمد ابن فارس, الصاحبي في فقه اللغة, ج1 ص 52
[8] السيوطي, أبوبكر بن عبد الرحمن, (جلال الدين) الإتقان في علوم
القرآن, دار الفكر ج2 ص 66.
[9] أمين يهوذا, التكرار ودلالته الشعرية في قصيدة (قبلة الشعر)
للشاعر إبراهيم مقري دراسة أسلوبية ص
[10] الحولي, فيصل حسن, التكرار في الدراسة النقدية بين الأصالة
والمعاصرة, ص 65 بتصرف.
[11] نازك الملائكة, قضايا الشعر المعاصر, مكتبة النهضة الطبعة الثالثة
1967 ص 210 وما بعدها.
[12] المرجع
السابق ص230
[13] المرجع السابق ص 242.
Comments
Post a Comment